يواصل الشمول المالي ترسيخ مكانته كأحد الركائز الأساسية في الأجندة الاجتماعية والاقتصادية لدولة الإمارات العربية المتحدة، مدفوعاً بتسارع التحول الرقمي، وتطوير الأطر التنظيمية، وتعزيز حماية حقوق العاملين. وتكتسب هذه القضية أهمية خاصة في ظل واقع يشير إلى أن أكثر من 60% من القوى العاملة في الدولة تتقاضى رواتب تقل عن 5,000 درهم شهرياً، ما يجعل طريقة صرف الأجور وإدارتها واستخدامها عاملاً مؤثراً في الاستقرار المعيشي والاجتماعي.
ورغم أن نظام حماية الأجور (WPS) نجح في تحقيق تغطية شبه كاملة لصرف الرواتب عبر القنوات الرقمية، إلا أن شريحة واسعة من العاملين لا تزال غير قادرة على الاستفادة الكاملة من الخدمات المالية الحديثة. وفي هذا السياق، يكشف التحليل السلوكي الذي أجرته شركة Edenred لعام 2025 عن خمسة اتجاهات رئيسية يُتوقع أن تعيد تشكيل مشهد الشمول المالي للقوى العاملة في دولة الإمارات خلال عام 2026.
-
تراجع الاعتماد على النقد وصعود الاستخدام الفعلي للرواتب الرقمية
أسهم تطبيق نظام حماية الأجور في إرساء بنية رقمية شبه مكتملة لصرف الرواتب، غير أن النقد ظلّ الخيار السائد لدى العمال لسنوات. إلا أن هذا السلوك يشهد اليوم تحولاً واضحاً، مع تسجيل أول انخفاض مستمر ومتعدد السنوات في الاعتماد على السحب النقدي بين أصحاب الدخل المنخفض.
وخلال عامين فقط، تراجع الاعتماد على النقد بمقدار 15 نقطة مئوية، من 84% إلى 69%، وهو أكبر انخفاض يتم تسجيله حتى الآن، ما يشير إلى تحول هيكلي وليس مؤقتاً. ومع ذلك، لا يزال عدد كبير من العمال يسحبون رواتبهم فور استلامها، إذ يقوم نحو 45% بالسحب خلال أول 24 ساعة، و15% خلال فترة تتراوح بين يوم وثلاثة أيام، ونسبة مماثلة بعد أكثر من ثلاثة أيام.
في المقابل، تُعدّ التحويلات المالية عبر الإنترنت السلوك الرقمي الأسرع نمواً بين هذه الفئة، مدفوعة بتبسيط الإجراءات، وتعدد اللغات، ووضوح الرسوم، وتعزيز أدوات مكافحة الاحتيال. وإذا استمرت هذه الاتجاهات، فمن المتوقع أن تنخفض عمليات السحب النقدي إلى ما دون 60% للمرة الأولى، ما يعكس انتقالاً حقيقياً من “الراتب الرقمي الذي يتحول إلى نقد” إلى الاستخدام الرقمي الكامل ويعزز الشمول المالي.

-
تطبيقات الرواتب تتحول إلى منصات متكاملة لإدارة شؤون الموظفين
لم تعد تطبيقات الرواتب مجرد أدوات للاستعلام عن الرصيد، بل تطورت لتصبح منصات شاملة تجمع خدمات متعددة في مكان واحد، تشمل التحويلات المالية، ودفع الفواتير، والادخار المصغر، وغيرها من الخدمات اليومية التي تهم العاملين من ذوي الدخل المحدود.
وتشير فرق الموارد البشرية في الشركات التي تعتمد أنظمة رواتب رقمية متكاملة وسهلة الوصول عبر الهاتف المحمول إلى ارتفاع مستوى رضا الموظفين بنسبة تصل إلى 25%. وفي عام 2026، ستتحقق القيمة الأكبر من خلال الخدمات الإضافية غير المالية التي تُبنى فوق نظام الرواتب الأساسي، بما يدعم احتياجات الحياة اليومية للعاملين.
هذا التحول يقلل الحاجة إلى استخدام عدة تطبيقات، ويُسهّل التعامل مع الخدمات المالية، خاصة للعاملين ذوي الخبرة الرقمية المحدودة، ليصبح تطبيق الرواتب أداة يومية أساسية، لا مجرد وسيلة لتلقي الأجر.
-
الوعي المالي يتحول إلى أولوية مؤسسية
لم يعد الوعي المالي مسألة شخصية تخص الموظف وحده، بل أصبح عنصراً مؤثراً بشكل مباشر في إنتاجية الشركات واستقرار القوى العاملة. فضعف الفهم المالي يؤدي سريعاً إلى زيادة الاستفسارات حول الرواتب، وسوء تفسير الخصومات، وارتفاع معدلات النزاعات الإدارية.
ورغم أن الإمارات تُعد من أكثر الاقتصادات ابتكاراً في المنطقة، إلا أن أقل من 31% من المقيمين يتمتعون بأساسيات المعرفة المالية، وهي فجوة تتسع مع انتشار منتجات مالية جديدة، مثل القروض المرتبطة بالراتب التي لم تعد تشترط حداً أدنى للدخل.
استجابة لذلك، تتجه مؤسسات متزايدة للتعاون مع شركات التكنولوجيا المالية لتقديم برامج تعليم مالي منظمة ومتعددة اللغات، تركز على إعداد الميزانيات، والادخار، والاستخدام الآمن للأدوات الرقمية، وتعزيز السلوك الائتماني المسؤول. وتثبت التجربة أن الأنشطة الميدانية، مثل ورش العمل الحضورية وتوزيع البطاقات في مواقع العمل، تحقق أعلى معدلات التأثير، خاصة في قطاعات البناء وإدارة المرافق والخدمات اللوجستية.
-
تشدد رقابي أكبر وارتفاع أهمية الامتثال في إدارة الرواتب
سجلت وزارة الموارد البشرية والتوطين خلال النصف الأول من عام 2025 أكثر من 5,400 منشأة مخالفة لقوانين العمل، من بينها مخالفات تتعلق بعدم دفع الأجور أو عدم الالتزام بنظام حماية الأجور، وذلك بعد تنفيذ نحو 285 ألف زيارة تفتيشية. ويؤكد هذا الرقم أن مخاطر عدم الامتثال لم تعد نظرية، بل واقعاً رقابياً ملموساً.
ومع تصاعد الغرامات، وتشديد الإجراءات الإدارية، وفرض قيود على تصاريح العمل، يواجه أصحاب العمل ضغوطاً متزايدة لضمان أن تكون عمليات الرواتب دقيقة وشفافة ومتوافقة بالكامل مع متطلبات نظام حماية الأجور.
في هذا السياق، ينتقل الامتثال من كونه إجراءً دورياً إلى عملية مراقبة مستمرة، حيث تقل المخاطر والغرامات على الشركات التي تستثمر في أنظمة رواتب غنية بالبيانات، وقابلة للتتبع، وتوفر مستوى عالياً من الوضوح.
-
الذكاء الاصطناعي وتحليلات البيانات لإتاحة حلول مالية مخصصة
بحلول عام 2026، ستتمثل القيمة الحقيقية للذكاء الاصطناعي في الشمول المالي بقدرته على الكشف المبكر عن المخاطر السلوكية وتقديم دعم مالي موجه. ففي السابق، اعتمدت الجهود على التوعية العامة والتحذيرات الموحدة من الاحتيال، وهي أدوات غالباً ما تكون محدودة الفاعلية لدى العمال ذوي الوعي المالي المنخفض أو الذين يواجهون ضغوطاً مالية يومية.
اليوم، تستطيع نماذج الذكاء الاصطناعي رصد أنماط إنفاق غير معتادة، وتحديد احتمالات التعرض للاحتيال، واكتشاف اضطرابات تدفق الرواتب، وحتى مؤشرات الضائقة المالية في مراحل مبكرة. وتعمل هذه النماذج بشكل متزايد كنظم إنذار مبكر يستفيد منها كل من العامل وصاحب العمل.
ويبقى التحدي الأساسي في ترجمة هذه التحليلات إلى إجراءات بسيطة وعملية، من خلال تنبيهات فورية، ورسائل تحذير أوضح، ونصائح مالية قابلة للتطبيق بلغات متعددة. فالذكاء الاصطناعي وحده لا يسد فجوة الشمول، بل يكمل دور الثقة والوضوح والتواصل الإنساني المباشر، لتحويل التشخيص إلى قرارات مالية أكثر أماناً وعادات أكثر استدامة.
سجل في قائمتنا البريدية لتصلك آخر الأخبار
تابعونا أيضا على بوابة التكنولوجيا وأخبارها في مصر
