الصحافة في عصر الذكاء الاصطناعي

استكمالًا لسلسلتنا عن الصحافة في عصر الذكاء الاصطناعي، نجيب اليوم في هذا المقال عن سؤالٍ مهم: هل سيحلّ الذكاء الاصطناعي محلّ الصحفي ويهدّد وجوده؟
والإجابة بكل تأكيد: لا، لا يمكن أن يحلّ الذكاء الاصطناعي محلّ الصحفي أو أن يلغي دوره. فالذكاء الاصطناعي أداة لتوفير الوقت والجهد في عدة مهام مساعدة للصحفي، مثل البحث والتحليل والتدقيق. ثم يأتي الدور الحاسم للصحفي في وضع لمساته الخاصة، ومراجعة المعلومات، والتأكد من موثوقيتها، بعد أن يوفّر وقت جمعها ومقارنتها وغيرها من المهام غير الإبداعية.
وبهذا، يتفرغ الصحفي للمهام الإبداعية التي تتطلب فكرًا وتحليلًا.
إذن، الذكاء الاصطناعي لن يلغي دور الصحفي، بل سيرفع من جودة المادة الصحفية التي يقدّمها.

بقلم : عائشة العفيفي

رئيس تحرير سلسلة بوابات التكنولوجيا وأخبارها في الإمارات ومصر

 

والإجابة وقبل الدخول فى التفاصيل في كل جيل، تظهر تحولات تُعيد رسم خريطة الإعلام. مرة كانت الطباعة، ثم البث المباشر، فالإنترنت. واليوم، نحن نعيش لحظة قد تكون الأشد تأثيرًا منذ قرون: لحظة صعود الذكاء الاصطناعي، لا كمجرد تقنية مساعدة، بل كفاعل رئيسي في صناعة المحتوى، تحديد توجهاته، بل وحتى استشراف ما قد يهم القارئ قبل أن يبحث عنه.

 

لقد أصبح المستقبل حاضرًا. غرف الأخبار تتغير. أدوات التحرير تتبدل. و”قواعد السيو” التي كانت حتى الأمس القريب دليلاً لكتابة المحتوى وتوزيعه، باتت تخضع لمراجعة عميقة في ظل تزايد الاعتماد على نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي وخوارزميات البحث الذكية.

من محركات البحث إلى منصات الذكاء: تغيّر في سلوك التلقي

لم يعد القارئ يدخل جوجل ليكتب سؤاله فحسب، بل صار يحصل على ملخص ذكي (AI Overview) في أعلى نتائج البحث، يعرض له جوهر ما يريد قبل أن يضغط على أي رابط. هذا التحوّل أثّر جذريًا على حركة الزيارات إلى المواقع الإخبارية، حيث بات القارئ يتلقى الجواب دون أن يُمنح الصحفي أو المؤسسة فرصة لعرض سردها الكامل.

هذا يعني أن الصحافة لم تعد فقط تُكتب للقارئ، بل تُكتب أولاً للذكاء الاصطناعي الذي سيعرضها أو يحجبها. ومن هنا، تبدأ مرحلة جديدة من السيو لا تكتفي بالكلمات المفتاحية، بل تهتم بالبنية العميقة للنص، موثوقية المصدر، والتنوع المعلوماتي داخله.

سلطة العلامة: كيف تصنع وجودًا يُعترف به؟

في هذا المشهد، لم تعد التقنيات التقليدية في تحسين محركات البحث كافية. حتى المحتوى الجيد قد لا يظهر، ما لم تتوفر له السلطة الرقمية (Digital Authority). هذا المفهوم يعني ببساطة أن تكون المؤسسة أو الصحفي مرجعًا موثوقًا في مجاله، بحيث تعترف خوارزميات الذكاء بذلك وتُفضّل محتواه على غيره.

لبناء هذه السلطة، لا بد من الاستثمار في:

  • المحتوى الأصلي والعميق
  • ذكر المصادر وتوثيق البيانات
  • الظهور المتكرر في مجالات متخصصة
  • التعاون مع منصات موثوقة
  • التفاعل الحقيقي مع الجمهور

الذكاء الاصطناعي لا يقرأ فقط ما تكتب، بل “يعرف من أنت”، ويُقرر وفق ذلك ما إذا كان سيعرضك ضمن نتائجه أو لا.

من الأدوات إلى الاستراتيجية: كيف يستفيد الصحفي من الذكاء؟

الصحفي الذي يطمح للبقاء مؤثرًا في هذا العصر، عليه أن يتحول من “مستخدم” للذكاء الاصطناعي إلى “مُدير استراتيجي” له. يجب أن يعرف كيف:

  • يستخدم أدوات التلخيص لصياغة محتوى مركّز
  • يعتمد على تحليل البيانات لاستكشاف اهتمامات جمهوره
  • يراجع مقترحات الكتابة الآلية ولا يقبلها دون تمحيص
  • يدمج الذكاء الاصطناعي في العمل التحريري دون التنازل عن البُعد الإنساني

المسألة لم تعد خيارًا، بل ضرورة للصحفي العصري: أن يتعلّم كيف يُدرّب ذكاءه الطبيعي على قيادة الذكاء الاصطناعي، لا العكس.

عائشة العفيفي

هل يفنى الصحفي؟ أم يزدهر بدور جديد؟

رغم كل المخاوف، فإن الذكاء الاصطناعي لن يلغي دور الصحفي، بل سيُجبره على التطور. ستبقى هناك حاجة ماسة إلى من يفكر، يحلّل، يربط بين الوقائع، ويطرح الأسئلة التي لا تسألها الخوارزميات.

في الواقع، ستزداد قيمة الصحفي الذي يتقن استخدام التكنولوجيا دون أن يفقد ضميره المهني. سيكون دوره أعمق، وأقرب إلى الباحث أو المحلل، منه إلى مجرّد ناقل للخبر.

ربما لن يكون الصحفي هو من يكتب “أول مسودة” للخبر، لكنّه سيظل من يُقرر النسخة النهائية. وهذا هو الفارق الجوهري: بين أداة تُنتج، وعقل يُحرّر.
الذكاء الاصطناعي في الصحافة ليس تهديدًا، بل فرصة. لكنه، ككل أداة قوية، يحمل في داخله احتمالات الخير والشر. وحدهم أولئك الذين يفهمونه، ويتعاملون معه بعين الناقد لا المنبهر، هم من يستطيعون صناعة مستقبل إعلامي لا يخسر فيه الإنسان صوته… وسط ضجيج الآلات.

 

للتواصل : aisha@eemirates.net

 

سجل في قائمتنا البريدية لتصلك آخر الأخبار

 

تابعونا أيضا على بوابة التكنولوجيا وأخبارها في مصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *